فصل: الحكم السادس: هل أفعال الإله جل وعلا تابعة للمصالح؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الثالث: هل الحكم خاص بأيوب أم هو عام لجميع الناس؟

اختلف العلماء في هذا الحكم الذي أرشده الله تعالى إليه نبيه أيوب عليه السلام هل هو خاص به أم عام لجميع الناس؟
فذهب مجاهد إلى أنه خاص بأيوب عليه السلام، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مذهب مالك، وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى.
وذهب عطاء بن أبي رباح: وابن أبي ليلى إلى أن الحكم عام، وأن هذه الرخصة لجميع الناس فضلا من الله تعالى وكرما، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى.

.الحكم الرابع: هل يشترط في الضرب أن يكون مفرقا؟

وبناء على ما سبق فقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط، فجمعها كلها وضربه بها ضربة واحدة، هل يكفي ذلك أم لابد في الضرب أن يكون مفرقا؟
فقال مالك وأحمد: لا يبر بيمينه حتى يفرق الضرب.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه واحد منها فقد بر في يمينه ولا يشترط التفريق.
حجة المذهب الأول:
1- إن هذا الأمر خاص بأيوب وزوجه لأن الله تعالى قال: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48] ولأن زوجة أيوب لم تفعل أمرا تستحق معه جلد مائة، فجعل الله سبحانه لأيوب فرجا ومخرجا بذلك.
2- ولأنه إذ أقسم بالضرب إنما أراد الإيلام، وليس في الضرب بالجميع إيلام.
3- الأيمان مبناها على النية، فإن لم توجد فعلى اللغة والعرف، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاربا مرات بعدد الشعب، وكذا العرف فوجب أن تجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة.
حجة المذهب الثاني:
1- عموم قصة أيوب عليه السلام، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ، وقد جاء في الشرع ما يؤيدها، ولم يثبت الناسخ.
2- واستدلوا بحديث أبي أمامة عن بعض الصحابة من الأنصار: أنه أشتكى رجل منهم فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكروا له ذلك، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، ولو حملناه لك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة سمراخ فيضربونه بها ضرة واحدة.
ودلالة الآية ظاهرة على صحة هذا القول.
وذلك لأن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد، وذلك يقتضي البر في يمينه.
3- وقالوا: إن القرآن حكم بأنه لا يحنث بفعله لقوله تعالى: {فاضرب به ولا تحنث}.
ولكن يجب أن لا يطبق ذلك في الحدود إلا مقيدا بما ورد الحديث به، فيكون ذلك حد المريض الذي وصل من المرض إلى الحد الذي وصف في الحديث الشريف.

.الحكم الخامس: هل تجوز الحيلة في الشريعة الإسلامية؟

3- قال الجصاص: في تفسيره أحكام القرآن: وفي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر.
أقول: هذا هو الحد المقبول من الحيل الشرعية التي توصل إلى ما يجوز فعله وتدفع المكروه عن نفسه وغيره. أما الحيل التي يتوصل بها إلى الهرب من فرائض الله، والتخلص مما أوجبه الله على الإنسان، فهذه لا يقبلها ذو قلب سليم ولا يقرها مسلم عاقل، لأن فرائض الله إنما فرضت لتؤدى، والواجبات إنما شرعت لتقام على وجه الأرض، لا لتكون طريقا للتلاعب في أحكام الله.
وقد استدل بعض العلماء على جواز الحيلة مطلقا بهذه الآية. وبقول الله تعالى في قصة يوسف: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه} [يوسف: 70]، وليس الأمر كما زعموا فإن ذلك بإذن الله ليظهر فضله على سائر إخوته بدليل قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله} [يوسف: 76].
قال الألوسي: وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الاستبراء وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقا ومنهم من لا يجوزها مطلقا.

.الحكم السادس: هل أفعال الإله جل وعلا تابعة للمصالح؟

قال الإمام الفخر رحمه الله: وفي قصة أيوب عليه السلام دلالة على أن أفعال ذي الجلال والإكرام منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23]. وذلك لأن أيوب لم يقترف ذنبا حتى يكون ابتلاؤه في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان البلاء ليجزل له الثواب، فإن الله تعالى قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام والأسقام، وحينئذ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة. وهذه كلمات ظاهرية جلية والحق الصريح أنه لا يسأل عما يفعل.

.الحكم السابع: هل البر في اليمين أفضل أم الكفارة عن اليمين؟

في الآية الكريمة دليل على أن البر باليمين ما لم يكن في إثم أفضل من الكفارة.
وقد قال ابن تيمية- رحمه الله- إن الكفارة لم تكن مشروعة في زمنه وإلا لأمره الله تعالى بها. وذكره ابن العربي قبله.
قال القرطبي: قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة، ليس بصحيح، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة- كما في حديث ابن شهاب- قال له صاحباه: لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه. فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة أن لا يأثم أحد يذكره، ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه: {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]. فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفر عن غيره بغير إذه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

أولا: إبتلاء الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام كان امتحانا لإيمانه، ورفعا لمقامه.
ثانيا: الإنسان يبتلى في هذه الحياة على قدر إيمانه، ولهذا كان الأنبياء أعظم الناس ابتلاء.
ثالثا: التضرع إلى الله والشكوى إليه سبحانه لا ينافي مقام الصبر الممدوح.
رابعا: كما يبتلي الله سبحانه بالفقر يبتلي بالغنى، والمؤمن من يشكر الله في السراء والضراء.
خامسا: إذا اتقى الإنسان ربه جعل الله له من أمره فرجا ومخرجا، كما صنع بأيوب عليه السلام.
سادسا: زوجة أيوب جازاها الله بحسن صبرها، فأفتاه في ضربها بمائة عود جملة واحدة.
سابعا: اتخاذ الحيلة جائز إذا لم يكن فيها إبطال حق أو هدم أمر من أمور الشرع الحنيف.
ثامنا: على الإنسان أن يبر في يمينه أو يكفر عنها إذا كان ثمة مصلحة وكان الحنث أفضل من البر.

.حكمة التشريع:

لقد نزل الإسلام بتشريعاته وتعالميه ليحكم المجتمع البشري في كل ظروفه وأحواله، فلهذا أعطى لكل أمر حكما، وراعى المصالح في أحكامه وتشريعاته كما راعى اختلاف الطباع الإنسانية، فعندما أجاز الشارع ضرب المرء زوجه إنما أجازه أولا وقبل كل شيء في حدود، وأن يكون الضرب مبرحا، ولا يتعدى حدود التأديب والتهذيب، ومع ذلك فقد اعتبر ضرب الأزواج غير ممدوح فاعله، وتبدو حكمة الترخيص بالضرب جلية في نساء مخصوصات تعودن عليه، ونشأن في ظلاله، فلم يعد من الممكن تأديبهن إلا بهذه الطريق فأجازها الشارع لذلك.
يقول شهيد الإسلام سيد قطب في كتابه الظلال ما نصه:
وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة، وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبدا صالحا أوابا، وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له.
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، ومنهم زوجته بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربها عددا عينه، قيل مائة.
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب}.
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان وتأذيه بها، أدركه برحمته، وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}.
ويقول القرآن الكريم: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب}.
وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه، ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدارك.
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه، وترضى نفوسهم بقضائه.
فأما قسمه ليضربن زوجه، فرحمة من الله، وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده فيضربها به ضربة واحدة تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} هذا التيسير وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} أخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} قال: ذهاب الأهل والمال والضر الذي أصابه في جسده. قال: ابتلى سبع سنين وأشهرًا، فألقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وأعظم له الأجر، وأحسن.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {بنصب وعذاب} قال: {بنصب} الضر في الجسد، {وعذاب} قال: في المال.
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن الشيطان عرج إلى السماء قال: يا رب سلطني على أيوب عليه السلام قال الله: قد سلطتك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده. فنزل فجمع جنوده فقال لهم: قد سلطت على أيوب عليه السلام، فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانًا، ثم صاروا ماء، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف. فأتوه بالمصائب بعضها على بعض. فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك عدوًّا، فذهب به. وجاء صاحب الإِبل فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على إبلك عدوًا، فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب البقر فقال: ألم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدوًا، فذهب بها؟ وتفرد هو ببنيه جمعهم في بيت أكبرهم.
فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح، فأخذت بأركان البيت، فألقته عليهم، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم؟ فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح، فأخذت باركان البيت، فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم. فقال له أيوب: أنت الشيطان، ثم قال له أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه، وقام يصلي، فرن إبليس رنة سمع بها أهل السماء، وأهل الأرض، ثم خرج إلى السماء فقال: أي رب أنه قد اعتصم، فسلطني عليه، فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال: قد سلطتك على جسده، ولم أسلطك على قلبه.
فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدميه إلى قرنه، فصار قرحة واحدة، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعى إليه حتى قالت له: أما ترى يا أيوب نزل بي والله من الجهد والفاقة ما أن بعت قروني برغيف. فأطعمك، فادع الله أن يشفيك ويريحك قال: ويحك..! كنا في النعيم سبعين عامًا، فأصبري حتى نكون في الضر سبعين عامًا، فكان في البلاء سبع سنين، ودعا فجاء جبريل عليه السلام يومًا، فأخذ بيده، ثم قال: قم.
فقام فنحاه عن مكانه وقال: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فركض برجله، فنبعت عين فقال: اغتسل. فاغتسل منها، ثم جاء أيضًا فقال: {اركض برجلك} فنبعت عين أخرى. فقال له: اشرب منها، وهو قوله: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} وألبسه الله تعالى حلة من الجنة، فتنحى أيوب، فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه فقالت: يا عبد الله أين المبتلي الذي كان هاهنا لعل الكلاب ذهبت به، والذئاب؟ وجعلت تكلمه ساعة فقال: ويحك..! أنا أيوب قد رد الله عليّ جسدي، ورد الله عليه ماله وولده عيانًا {ومثلهم معهم} وأمطر عليهم جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده، ثم يجعله في ثوبه، وينشر كساءه، فيجعل فيه فأوحى الله إليه: يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك.